بسم الله الرحمن الرحيم
ومن يوق شح نفسه
________________________________
الخطبة الأولى
اللهم لك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما تحب ربنا وترضاه، لك الحمد بالإسلام ولك الحمد بالقرآن ولك الحمد بنعمة السنة والهداية ولك الحمد بنعمة الأهل والمال والمعافاة، أحسنت معافاتنا وبسطت أرزاقنا وجمعت فرقتنا وكبدت عدونا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا اللهم أوزعنا شكر نعمتك التي لأنعمت علينا وهب لنا عملا صالحا ترضاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرا.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، ففي التقوى سعادة الدنيا ونجاة والآخرة ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.
ثم اعلموا: أن أنفع الحديث كتاب الله - عز وجل -، وأحسن الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واعلموا أن شر الأمور في دين الله محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إخواني في الله، معاشر أهل التوحيد: اعتمر أحد أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأظنه عبد الرحمن بن عوف فما زاد في عمرته وفي طوافه وفي سعيه وفي عمرته كلها على قوله: ((رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي))، فلما سئل عن ذلك قال إن الله يقول: ? وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [الحشر:9].
عباد الله: يقول نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم)) والشح حملهم على القطيعة فتقاطعوا وعلى القتل فتقاتلوا.
والشح عباد الله هو أن تمنع ما عليك وتستشرف لما ليس لك، ولو تدبرت هذا لوجدته ينتظم الإسلام كله، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان الصبر والسماحة))، والسماحة ضد الشح.
فشحك بالنوم وبالفراش الدافئ يحملك على ترك الصلاة، وشحك بالوطن والعشيرة يحملك على ترك الهجرة، وهي من أعلى شعب الإيمان مع الصلاة، وشحك بالنفس والمال يحملك على ترك الجهاد في سبيل الله وعلى طلب العلم، وشحك بالأصحاب وبالعشائر وبالألفة قد يحملك على ترك التوحيد وترك السنة لأنه سينبني على ذلك تبديل الحسنات بالسيئات وتغيير الأصحاب وتغيير أشياء كثيرة فقد تشح بهم وتترك الحق. شحك بالطعام والشراب والنساء يحملك على ترك الصيام، شحك بالأهل والوطن والمال والجهد يحملك على ترك الحج.
وهكذا أيها الأخوة في الله، الشح بالمال يحملك على ترك الزكاة وترك الإنفاق في سبيل الله وهكذا الأوامر سبب تركها الشح.
? وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ? [النساء:128]، الشح مغروز في الأنفس إلا من زكاها وقليل ما هم، ولذلك قال الله: ? وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [الحشر:9].
عباد الله: والشح يحملك على استشراف ما ليس لك في المال يحملك على أن تطلب ما ليس لك، هل أُكل مال اليتيم إلا بالشح؟ هل أُكل الربا والقمار إلا بالشح؟ هل أُعتدي على محارم الله وانتهكت حدوده إلا بالشح؟ أهلك والله من كان قبلكم/ وهلاك هذه الأمة في هذا الشح، عدم السماحة لا بالإعطاء ولا بالأخذ.
نظرك إلى ما لا يحل لك من النساء أليس من الشح أن تنظر إلى امرأة لا تحل لك وليست من محارمك؟ ما الذي حملك على النظر إليها؟ الشح المغروز في الأنفس. نظرك إلى ما متع به الله أزواجا من الناس زهرة الحياة الدنيا ليفتنهم فيه ما الذي حملك أن تمد عينيك إلى ما متعهم الله ليفتنهم فيه؟ الشح.
التنصت: والتصنت على كلام لا يعنيك والحرص والاستشراف على سماع كل كلام ما الذي يحمل عليه؟ أليس هو الشح؟
عباد الله: في الأخذ وفي العطاء الهلكة كلها في الشح، فمن كان شحيحا مستشرفا لم يبارك له في ذلك، من كان شحيحا حريصا على الإمارة والمنصب حتى لو أتاه لم يبارك له فيه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن سألتها وكلت إليها))، الاستشراف من الشح، الاستشراف للمال والهلع والتطلع إن كان فيك فهذا من الشح ولو جاءك لم يبارك لك فيه.
قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر وحكيم بن حزام: ((إن هذا المال حلوة خضرة فمن جاءه بسخاوة نفس)) ضد الشح ((بورك له فيه، ومن جاءه بإشراف نفس)) وبهلع وبتطلع ((لم يبارك له فيه))، وعلى هذا كل الدنيا، الشهرة الأتباع، المنصب، كل أمر من الدنيا هذا طريقه، من ابتلي به من غير تطلع أُعين عليه، ومن تطلع واستشرف له وُكل إليه ولم يعن عليه وتدبر ترى.
وكذلك أيها الأخوة الشح في الطرف الثاني المنع والهلع والحرص سبب للتلف، ما من صباح إلا وينزل ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكا تلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا، فيدعى على الشحيح الحريص بالتلف إذا أمسك.
عباد الله: تدبروا، ما الحامل على قطيعة الأرحام؟ أليس هو الشح؟ على عقوق الوالدين شحنا الآن بالوقت، شح بالجهد، شح بالعلم، أن يبذل في وجهه، شح بالمال شح بكل شيء وتطلع إلى ما ليس لك.
الأثرة عند الحاكم والمحكوم، عند الراعي والرعية، أليست هذه من الشح؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم ستلقون أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض))، ليكن عندكم سخاوة نفس إذا قُُوبلتم بالأثرة ولا تعالجوا الأثرة بالأثرة، فإن هذا ليس الحل.
قال للأنصار: ((إنكم ستلقون بعدي أثرة)) سيستأثر دونكم بالمنصب بالجاه بالمال، فما الحل؟ قال: اصبروا ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض))، أدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم، ما أطيب السماحة! هي والله شطر الإيمان، السماحة، سخاوة النفس بالفرائض والإقبال عليها، سخاوة النفس بما أمر الله والعفاف عن ما نهى الله وعدو الاستشراف والتطلع.
قاتل الله الشح أهلك الأفراد وأهلك المجتمعات حملهم على الفتن، على إراقة دماء بعضهم لبعض، شحا في هذه المناصب، في هذه الكراسي، شحا في هذه الدنيا، لا تسمعوا على ألسنتهم إلا تعداد الأموال وتعداد المناصب كل يشح بالآخر، المتسلط يشح والذي ينازعه يشح.
عباد الله: أثنى الله على الأنصار أجمل ثناء وهذا يلخص لنا الشح كله فقال: ? وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ? [الحشر:9] من قبل المهاجرين وهم الأنصار ? يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ? والله إن هذه الصفة لا تكون في قلب الشحيح ? يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ? ما شحت الأنصار بأموال ولا بدور ولا بوقت ولا بطلاقة وجه بعض الناس يشح حتى بالابتسامة وبطلاقة الوجه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) والابتسامة في وجه أخيك صدقة، ما هذا الشح الذي عم وطم؟، ? يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ? حتى قال بعضهم: ((عندي اثنتان، زوجتان أنزل لك عن واحدة وتختار أنت فأطلقها وتتزوجها))، وكان المهاجري أيضا سخي نفس قال: ((بارك الله لك في زوجتيك وفي مالك ولكن دلني على السوق))، هذه سخاوة النفس التي فُتحت بها الدنيا، بل فُتحت بها القلوب، ثم قال الله في الصفة الثانية: ? يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا ? فضل الهجرة ذهب للمهاجرين، فهؤلاء لم يحسدوهم عليه وإن كانوا يغبطونهم على فضل الهجرة، ولكن ليس في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون من الفضل العظيم، ثم قال الله: ? وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ? إذاً لا يستشرفون ولا يمنعون وهذا ركني الشح، هذه ركني الشح، ? وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ? الإيثار ليس السخاوة فحسب وليس الكرم فحسب، الإيثار أبلغ درجات السخاء وهو أن تحتاج فتقدم غيرك على نفسك، وهل بعد هذا من سخاء؟ ? وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ? ثم قال الله: ? وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [الحشر/9].
وقبلهم المهاجرون ما شحوا بالأوطان ولا بالقبائل ولا بالعشائر ولا بالأموال ولا بالدور سخاوة نفس، قال الله: ? لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ? [الحشر/8] والجيل الثالث إلى يوم القيامة ونحن من هذا الجيل أيضا لا بد أن تكون فيهم سخاوة نفس، قال الله: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ? [الحشر/10].
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. اللهم ارزقنا سخاوة النفس، اللهم إنه ما تركت الهجرة إلا بالشح ولا تُرك الجهاد إلا بالشح، ولا طلب العلم وبذله وتعليمه، ولا الصلاة والصيام والحج والصدق والصلة والعفاف إلا بهذا الشح قاتله الله، حتى الألفاظ مطابقة للمعنى، فإن الشين والحاء يختم بالحاء تخرج من أقصى الحلق كأن فيها شح، وهذه من عجائب هذه اللغة لغة القرآن.
فيا عباد الله عباد الله يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والشح، إياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم)) لذلك لا تستشرفوا إلى ما لم تؤتوا فتنزع البركات، ولو جاءكم ولا تمنعوا ما عليكم حرصا وهلعا، واعلموا أن الله يجازي كل عبد بجنس عمله، قال - صلى الله عليه وسلم - لأسماء: ((لا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توكي فيوكي الله عليك وأنفقي ينفق الله عليكي))، كلما تعاملت مع الله بسخاوة نفس وبذلت كان الله أكرم منك وكلما تقربت إليه ذراعا تقرب إليك باعا، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة - جل وعلا -، يقول الله:? الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ? سخاوة نفس وإقدام لا يرتعد عندما ينفق بل يفرح، ?وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? [البقرة/265].
اللهم فقهنا في كتابك وفي سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أعذنا من الشح، اللهم طهر قلوبنا من الشح، اللهم طهر قلوبنا من الشح يا رب العالمين، اللهم ارزقنا سخاوة النفس في بذل ما أمرت به وفي ترك ما نهيت عنه يا رب العالمين، اللهم نور بصائرنا وشد ظهورنا وثبت أقدامنا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
________________________________________
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيرا.
عباد الله: يقول الله - جل وعلا -:
بسم الله الرحمن الرحيم
? أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ? [التكاثر/8]
ويقول ربنا - جل وعلا -:
بسم الله الرحمن الرحيم
? وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ? [العصر/3]
اللهم اجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك، اللهم ثبتنا على الصراط المستقيم وأحيينا في عافية وأمتنا في عافية، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.
ⴭ